بقلم: محمد عباس
كنت قد كتبت مقالًا بعنوان الإخوان والتأسيس الرابع، يوضح فيه أن الإخوان في مرحلة تأسيس لم تنفك عنها منذ تأسيسها الأول بيد الإمام البنا منذ ثمانين عامًا وزيادة، وقد قلت أن هذا المرحلة التأسيسية الرابعة لهي أهم المحطات في تاريخ تكوين الجماعة، التي لازالت في مرحلة التكوين حتى اللحظة.
قبل أن أدندن حول فكرتي الجديدة واستعرضها، نريد أن نستصدر ثوابت هامة ومنطلقات مبدئية نتفق عليها، ابتداءً قبل الشروع في الحديث، لعلنا إن اختلفنا فيها فأنا أحرص على وقتك أن تضيعه في قراءة السطور القادمة، فإنها لن تقنعك ولن تفيدك.
أول هذه المنطلقات أن الله أذن لهذه الأمة بالفرج والتحرر من آثار الاستعمار، والتحرر كذلك من هيمنة الجاهلية بكل صورها وأشكالها لتعود للإسلام الصحيح الذي جاء به محمد الرسول، أي بعبارة أخرى نحن في مرحلة تجديدية جديدة أو قل إن شئت على مشارفها وأصبحت ملامحها واضحة المعالم وشديدة السطوع.
ثاني هذه المنطلقات أن الحركة الإسلامية بمجموعها الآن تفتقر للمشروع المتكامل الشامل، الذي يقود زمام الأمور ويوجه الدفة على كافة المستويات نوعًا وعمقًا في الصراع مع الجاهلية والخلافة الأمريكية، فمنهم من يحمل المشروع الجهادي ولا يقدم مشروعًا نهضويًا للأمة، بنائيًا لها فتراه يجاهد ليدفع الظلم عن المستضعفين ثم لم يلبث أن يأتي للحكم من بعده علمانيين يحكمون بوقود دمه، كما حدث في البوسنة والشيشان وكوسوفا، ومنهم من يقدم المشروع الدعوي الذي تكون السياسة أحد أركانه ولكن لا يحميه بجهاد فصار لا يتحلى بأي من عناصر القوة، فبات ضعيفًا مجردًا من كل قوة، فُضرب مشروعه فى مقتل.
ومنهم من تعلمن وخرج عن إطار الصراع بالجملة، بل ودخل في دائرة الخيانة للمشروع نفسه، وبات يتأسى برسول الله في لباسه وثيابه تاركا كل غزواته ونزالاته مع الجاهلية لنشر الدين والعقيدة وهيمنة الفكرة، ومنهم من قدم مشروعًا مدنيًا حضاريًا يستند للإسلام من بعيد، ولكنه ليس مشروعًا دعويًا ولا يحميه الجهاد وشخّص أزمة الأمة في فقرها في التمدن والحداثة والصناعات الرائدة، متأثرًا بتجربة ماليزيا وتركيا وغيرها ليقول أن الأمة إن كانت رائده في هذا الشأن سيأتي بعد ذلك تسويق المشروع الإسلامي لينطلق من دولة قوية رشيدة حديثة، وهؤلاء كانوا ولا يزالوا دعاة الإسلام الحضاري الكيوت الذي يدعو للحياة الكريمة ولا يتصادم مع أحد، ولا يدخل في الصراعات الدولية وليس جزءً منها، أما من جاء بمشروع كامل ومتكامل وشامل يشمل الأركان الأربعة، وواضح وضوح الشمس لنفسه، ولكل من حوله فهو ليس موجودًا على الساحة الآن.
الآن يمكنك تكملة سطور مقالي إن اتفقنا على ما سبق.
كيف حال الأرض الآن، نحن أمام مشهد متراكب يؤكد أن الله يصنع شيئا ويهييء أمرًا بديعًا عظيمًا، لعل علينا التعريج على الحرب العالمية الثالثة الجارية الآن لنفهم الأمر عن كثب، حرب قدرها البنتاجون إنها ستستمر ثلاث سنوات بميزانية كما قال جوردن أدام 16 مليار دولار سنويًا، ولكن الكثير من الخبراء العسكريين الأمريكان يقدرون وقت الحرب أكثر من ذلك كما قال نيوت جينجريتش " أن الحرب على الدولة ستتطلب بين 10 أعوام إلى 15 عامًا! ".
والدولة الإسلامية من منظوري مع احترامي وتقديري المطلق لمؤيديهم، هم مجاهدين يفتقرون للمشروع الدعوي القويم الذي يجمع الناس عليه، ويقدم طريقًا قويمًا يتناسب مع حيوات الناس وطبيعة الوقت والعصر، فهم في نظري نسخة كربونية لدولة المرابطين الذين أجبروا الأندلسيين على المذهب المالكي، وجاءوا من الصحراء مجاهدين لا يفهمون سياسة الناس، ولم يروعوا الغنم من قبل ولا يملكون مشروعًا دعويًا سمحًا، فزالت دولتهم بأيدي من فتحوا لهم البوابات منذ 60 ثمانين عامًا فقط لتكون أقل الدول عمرًا في التاريخ . ( راجع مقالي بعنوان المجاهدون لا يفلحون).
تلك الحرب العالمية التي سيخرج منها الجميع أن خرجوا خسارى منهكين، فالخليج على رأسه السعودية زادت الحرب من سخونة بيتها الداخلي وغليانه واضطراب أركانه، فلأول مرة يحال أربعة طيارين من جيشها المتمثلة عقيدته بشكل طائفي من الدرجة الأولى، إلى التحقيق بعد رفضهم المشاركة بالحرب، فلأول مرة يقاتل الجندي السعودي صاحب تلك العقيدة في صف إيران الشيعية ضد مسلمين سنة، فمع هشاشة الداخل السعودي والوضع المزري للعائلة المالكة ربما تكون تلك الحرب نهاية نظام الحكم بالخليج وتكون عود الثقاب لبرميل من البارود ينتظره على شوق.
أما إيران فدخلت الحرب لأن العراق بالنسبة لها عمقا استراتيجيا لا تستطيع خسارته ولحماية النظام السوري من ألد أعدائها وهى الدولة الإسلامية ، وقدمت بذلك الدور الرئيسي في الحرب وهو التدخل البرى وتدريب الأكراد وقوات البيشمركة كما أعلن قائد فيلق القدس ، لتبسط بذلك هيمنتها على العراق مهما أنتجت الأحداث رئيسا جديدا للعراق سيكون دمية بيدها بتدخلها البرى ، هذا ما تطمع إليه وتنشده ، وان حلفاءها اليوم لن يسمحوا بمثل هذا غدا ، فسيتحول التحالف نفسه إلى خصوم متقاتلين وربما يدعم أحد أطرافه الدولة الإسلامية ضد إيران يوما ما ، لتكون بذلك إيران دخلت مستنقعا إقليميا لا عودة لها منه ففاتورة الهجوم على الحوثيين باليمن لا زالت تُدفع يوما بعد يوم وترهق طهران وتزعجها كثيرا ، وكذلك سورية ومنذ الآن يبدأ العراق في حرب جديدة مع فصيل يحسن القتال كما لم يحسنه غيره وهو الدولة الإسلامية وطهران التي لم تخض حرب عصابات أبدًا هي الصدر العاري أمامه.
وأما الولايات المتحدة فيدها المرتعشة لخوض الحرب جعل أقوى حلفائها قلقين من السير ورائها لأول مرة ، فبريطانيا وألمانيا رفضتا المشاركة بالضربات الجوية في ظاهرة غريبة فسرها كل المحللون أنها انعكاسا لتوتر العلاقات مع الولايات المتحدة على خلفية قضية التجسس الأخيرة ، وكذلك فرنسا حين صرحت أنها ستشارك بالضربات إذا اقتضت الحاجة ، فسيطرة الولايات المتحدة وقدرتها على خوض حربا بمنتهى الثقة التي كانت تظهر على بوش عام 2003 حين شن حربه على العراق حينذاك تفتقدها واشنطن اليوم بكل قوة ، فثقة العواصم فيها أصبحت شبه معدومة إلا من خانعين عرب شعوبهم في حالة غليان في وضع إقليمي متأزم ، إضافة إلى البعد الاقتصادي المتأزم الذي لا يسمح للإدارة الأمريكية خوض حرب طويلة الأمد أو حتى غير محسومة النتائج ومحددة الأهداف كهذه الحرب ، ولا يزال فشل تحقيقها لأهداف الحرب بالعراق وأفغانستان واليمن التى عجزت على القضاء على القاعدة فيه ، لا يزال يتراءاى لها وينعكس جليا في أداء هزيل ضعيف فى كل تصريحات الساسة الأمريكان.
فالحرب على الدولة الإسلامية ستنتهي إما بخسارة الجميع وإنهاك الكل وخروج الدولة الإسلامية منتصرة نصرا أنهكها وأضعفها ، أو تنتهي الحرب على سيطرة كاملة لطهران على الأراضي العراقية والسورية بالضرورة ، وفى الحالتين ستفتقد الأمة لديناصور ومارد سني ينطوي الناس تحت لوائه إما ينافس الدولة الإسلامية المنتصرة في الحالة الأولى ليقدم مشروعًا إسلاميًا دعويًا قويمًا ، أو ينافس الهيمنة الشيعية على جل مناطق العرب في الحالة الثانية ، والخليج لا يستطيع أبدا ملء هذا الفراغ في الأفق السني لأنه يفتقد لأي مقوم لذلك سلطة ودعاة ومنهجا ومنهجية.
لم تكن الفرصة سانحة للإخوان المسلمين كما كانت سانحة الآن لملء هذا الفراغ الكبير الذي سيعطيهم وزنا عند الأمة بعمومها وشعوبها عظيما لم يكن من قبل ، فالمستقبل لهم أن أرادوا ذلك ، وجاء الانقلاب في الوقت المناسب فالإخوان لا تستطيع ملء هذا الفراغ بالفكر القديم واليات الزمان الغابر ، جاء الانقلاب لتجدد نفسها وتراجع أفكارها ومناهجها ، فان أحسنت وتراصت من جديد فستستطيع الإخوان بمقدراتها وإماكناتها الهائلة أن لا تزيل الانقلاب فحسب بل أن تكون جماعة تملك دولًا و أسلحة دمار شامل إن شئت أن تقول ، جماعة ترتعد قصور الملك منها في كل العواصم لما تستطيع الإخوان فعله.
الطريق واضح ومعلوم ، رسالة المرشد الافتراضية المتداولة مؤخرا بقراراتها الخمسة هي الحل ، إذعان مطلق للتغيير والتجديد والمراجعات " الجذرية " في الفكر والمنهج ، فالإخوان هم الأوحدون من يقدرون على اكتمال الأركان الأربعة المذكورين فى صدر المقال في كيان واحد ، ليخوضوا الصراع من كل أوجهه ونوافذه فيثخنوا في العدو والجاهلية أيما إثخان.
أستطيع أن أقسم أن جماعة الإخوان بكل مصر وقطر الآن تعيش بركانًا يغلى ، فكم الورش والنقاشات والتدافع والصراعات داخل البيت الإخواني شبابًا وقيادة بكل العواصم ، والأفكار والمناهج التي تغيرت في الأذهان على الأقل حتى الآن قد تخطت كل ثابت وكل معلوم من أفكار الجماعة بالضرورة ، مما يؤشر إلى أنه يومًا ما سيخرج علينا الإخوان بثوب جديد وحلة جديدة وعمة جديدة على الرءوس ليعلنوا عن أنفسهم من جديد جماعة عادت إلى منبعها الأول حين خاض بها مؤسسها حربًا إقليمية وهى لم تتعد عمر العشر سنين.
لا أحسب الانقلاب جاء إلا لذلك الاستحقاق ، جاء ليصفعهم للإفاقة ، جاء كصعقة كهربائية تحيى من جديد ، جاء في وقت مخطط بإبداع ومدبر بعناية ربانية معجزة، فعليهم صياغة أنفسهم في غفلة من العالم وانشغال الخصوم عنهم وتلهف الأمة لصحوتهم ، فإن أبى الإخوان وفشلوا في تغيير جلدتهم فسيخرجون أيضا على الأمة بثوب جديد وهو كفن الموت ليودى بهم في قبر سحيق ليكونوا صفحة من صفحات التاريخ الحائرة ويبدأ المخلصون منهم الطريق من جديد تحت راية جديدة ومنهج جديد وتنظيم جديد.